بعد شهور تنتهي ولاية نبيل العربي كأمين عام لجامعة الدول العربية، ليتم خمس سنوات، شغل فيها المنصب منذ مايو/أيار 2011. وفي ولايته شهدت الدول العربية على مدار هذه السنوات، العديد من الأزمات السياسية، ولم يكن للجامعة، كعادتها، دور يذكر في إنهاء هذه الأزمات أو التخفيف من حدتها، لتظل الجامعة على ما هي عليه في أذهان الشعوب العربية، بأنها كيان بلا صلاحيات ولا سلطات، ولا إنجازات.
في يناير/كانون الثاني 2009، عقدت أول قمة عربية نوعية، في الكويت، أطلق عليها القمة الاقتصادية والاجتماعية العربية الأولى، وحاول بعض القادة العرب حينذاك تسويق القمة، على أنها المدخل المأمول لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي الذي تأخر أكثر من خمسة عقود، حيث إن الاقتصاد قائم على المصالح، وبالتالي تحرص الدول على التفاعل مع فعاليات القمة الاقتصادية.
وبالفعل عقدت القمة الثانية بالقاهرة في يناير/كانون الثاني 2011، والثالثة في الرياض في يناير/كانون الثاني 2013، ولم يعرف بعد مصير القمة الرابعة، رغم أنها كانت واجبة الانعقاد في يناير/كانون الثاني 2015، لتضمين الدعوة لعقدها أول مرة، أنها تعقد كل عامين، وقد اعتذرت تونس عن إقامة هذه القمة على أراضيها في يناير/كانون الثاني الماضي.
وبغض النظر عن مسألة انعقاد القمة الاقتصادية من عدمه، تبقى القضية في غياب تفعيل دور جامعة الدول العربية، ككيان إقليمي، من المفترض أنه يعمل لصالح أعضائه، ويوفر خططا وبدائل لما يحل بالمنطقة من أزمات ومشكلات، ومع ذلك ما زال دور جامعة الدول العربية في ظل ولاية نبيل العربي، لا يتجاوز الأداء الروتيني، للدعوة لاجتماعات، أو إصدار بيانات.
لعل من الملفات الساخنة التي استقبلت نبيل العربي، في بدء ولايته، تدهور اقتصاديات دور الربيع العربي، ومعاناتها المالية، ولجوئها للاقتراض الخارجي، وسعيها لتوقيع اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي، كما حدث من قبل في حالتي تونس واليمن، وكانت مصر في طريقها لتوقيع اتفاق مع الصندوق في 2012.
"الملف الاقتصادي العربي مليء بالمشكلات التي تنوء بها أكتاف مسئولي الجامعة العربية"
لم تتخذ جامعة الدول العربية، ما يمكن أن نسميه إجراء أو فعالية حقيقية لإنقاذ اقتصاديات دول الربيع العربي، على الرغم من انتظام جميع اجتماعاتها الداخلية المعنية بالشأن الاقتصادي، سواء على مستوى الوزراء، أو الموظفين المعنيين بتلك الملفات، مما ترتب عليه تفاقم مشكلات عجز الموازنة والبطالة بشكل كبير في تلك الدول.
كما غابت الجامعة عن اقتصاديات الدول العربية التي تشهد حروبًا أهلية، حيث تعيش ليبيا وسورية واليمن تراجعًا اقتصاديًا مخيفًا، وحتى على صعيد المساعدات الإنسانية لا يوجد دور لجامعة الدول العربية، في هذه الدول.
الملف الاقتصادي العربي مملوء بالمشكلات التي تنوء بها أكتاف مسؤولي الجامعة العربية، فقد وقعت أزمة انهيار أسعار النفط منتصف 2014، وترتب عليها آثار اقتصادية سلبية على العديد من الدول العربية، النفطية وغير النفطية، ومع ذلك لم نجد تحركًا على صعيد جامعة الدول العربية، للتفاعل مع الأزمة، وإداراتها، أو تقديم مقترحات لوجود كيان عربي جامع يدير ملف الأزمة، ويعمل على تفادي آثارها السلبية، أو التخفيف من حدتها.
وثمة مشكلات تمويلية تهدد الدول النفطية، جعلت بعضها يلجأ للاقتراض الداخلي خلال عام 2015، ثم تفاقم عجز الموازنات بهذه الدول، ومؤخرًا اتجهت دول خليجية للاقتراض الخارجي. وهناك مشكلة كبيرة تتهدد العمالة العربية المهاجرة للدول النفطية العربية، حيث يتوقع أن يتم تقليص أعداد هذه العمالة، مما سيترتب عليه سلسلة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية بالدول العربية المصدرة للعمالة، وبخاصة بعد أن تجاوز معدل البطالة في الدول العربية 20%.
بعد الأزمة المالية التي ضربت الدول الأوروبية، تداعت تلك الدول عبر كيانها الإقليمي، وهو الاتحاد الأوروبي، وثمة إجراءات عملية فعلت صندوق الإنقاذ، الذي استهدف رأس مال 200 مليار يورو، فكانت الحصيلة ترليوني يورو، وتم مساعدة وإنقاذ اقتصاد أكثر من خمس دول، وكم راهن من الاقتصاديين على إفلاس اليونان، ولكن من كانت نظرتهم ملمة بالبعد الحضاري، والمفارقة الزمنية بين وضع أوروبا الآن، ووضعها عقب الحرب العالمية الأولى أو الثانية، رأوا أن الاتحاد الأوروبي لن يسمح بإفلاس اليونان، لأنها رسالة تضرب بعمق في جدار تجربة الاتحاد الأوروبي.
وعلى الصعيد العربي، غابت الرؤى، أو الخطط، أو حتى المقترحات التي يمكن أن تجتمع عليها الدول العربية، كان بوسع الدول العربية عبر جامعة الدول العربية، أن توظف الأموال العربية التي تناهز نحو 2.5 تريليون دولار أن تساعد اقتصاديات دول الربيع العربي، وكان بوسع مؤسسات جامعة الدول العربية عبر خبرائها وباحثيها، أن تتنبأ بمستقبل أزمة انهيار أسعار النفط، وتعد البدائل التي تحافظ على الثروة النفطية العربية، وتحول دون سقوط اقتصاديات الدول النفطية العربية إلى واقع هذه المشكلات الاقتصادية التي يتوقع لها أن تمتد على مدار خمس سنوات قادمة.
لا تعرف دولنا العربية لا على المستوى الخاص أو العام، أن تجرى محاسبة وتقويم، سواء على مستوى الأشخاص أو المؤسسات، ومن الطبيعي أن يرحل نبيل العربي، مع نهاية مايو 2016، دون أن يحاسب الرجل باعتباره على رأس مؤسسة لها تبعات كبيرة، وعليه مسؤوليات جسام، في ظل ظروف غير تقليدية.
"إن من يريدون أن يحاسبوا نبيل العربي هم الفقراء الذين يزداد عددهم كل يوم تحت وطأة التراجع الاقتصادي بالدول العربية"
ماذا قدم الرجل؟ هل أدى ما عليه، وخذلته الحكومات العربية؟ أم لم يبذل ما في وسعه كشخص، وما في وسع مؤسسات العمل العربي المشترك التي مضى على تأسيسها أكثر من ستة عقود، وتخضع لمؤسسات جامعة الدول العربية؟
لقد راهنت الحكومات العربية كثيرًا على الصراعات الدولية، وأهملت بناء وحدتها العربية، ولكن الظروف الحالية تؤكد على تفرغ القوى الدولية لافتراس المنطقة العربية، لتبقى لفترة طويلة تحت الاحتلال. نعم تحت الاحتلال وليس التبعية الاقتصادية والسياسية، التي كنا نعيبها خلال الفترة الماضية.
إن من يودون محاسبة نبيل العربي الشخص والمؤسسة، هم العاطلون عن العمل، وبخاصة الشباب منهم، وكذلك المهاجرين العرب، الذين شردتهم الحروب الأهلية، على الشواطئ الأوروبية، في ظل غياب كامل لجامعة الدول العربية، ودخول دول عربية أخرى لإذكاء هذه الحروب واستمرارها، بل والدخول فيها كأطراف للصراع.
إن من يريدون أن يحاسبوا نبيل العربي هم الفقراء الذين يزداد عددهم كل يوم تحت وطأة التراجع الاقتصادي بالدول العربية، وكذلك استمرار الحروب، وغياب الاستقرار السياسي والأمني.
ولكن هل يستحق المحاسبة نبيل العربي وحده؟ أم يحاسب معه الحكام العرب، الذين أساءوا إدارة المرحلة على صعد مختلفة، من بينها الملفات الاقتصادية والاجتماعية.
في منتصف الثمانينيات كان يحدونا الأمل في إحياء المشروع الاقتصادي العربي، ولكن الاقتصادي العربي القدير الراحل د. رمزي زكي، سطر في مقدمة أحد كتبه، بأنه لا يوجد اقتصاد عربي ناتج عن صورة من صور التعاون أو التكامل الاقتصادي بين الدول العربية، ولكن هناك اقتصاديات دول عربية، أي أن "زكي" رأى أنها جزر منعزلة، وأحسب أن عزلة هذه الجزر اليوم أشد مما كانت عليه منذ ثلاثة عقود.
وبلا شك فإن الدول العربية سوف تنجز أمر اختيار خليفة نبيل العربي كأمين عام لجامعة الدول العربية، ولكن ما سيفشل فيه العرب بلا شك، أن يجعلوا للجامعة دورا اقتصاديا أو غير اقتصادي.